ما سر إبداع قراء الرعيل الأول في قراءة القرآن الكريم وهل هي المقامات النغمية أم هناك سبب آخر ؟؟

0
ما سر إبداع قراء الرعيل الأول في قراءة القرآن الكريم وهل هي المقامات النغمية أم هناك سبب آخر ؟؟


المقالة الثانية


ما سر إبداع قراء الرعيل الأول في قراءة القرآن الكريم وهل هي المقامات النغمية أم هناك سبب آخر ؟؟



بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبد الله ، وبعد


رأينا في الآونة الأخيرة انكباب الناس على تعلم المقامات النغمية وحرصهم الشديد على تعلمها لأنهم يعتبرونها هي التي أوصلت كبار قراء الرعيل الأول إلى هذا المجد وإلى هذه الشهرة ويغفلون عن أمور ربما تكون هي بسيطة جدا ولا تكلف ديناراً ولا درهماً ولكن يكون تأثيرها أعظم وأجل وأسرع وينعكس على الأداء ويأتي بالمعجزات الصوتية بدلاً من كونهم يقضون الساعات بل الأيام في تعلم هذه المقامات النغمية التي تفسد المقصد الحقيقي من التلاوة وهو تفكير القارئ فيما يقول أو يتلو.


وقبل أن نشرع في التعريف بهذه الأمور لابد أن نقدم له بمقدمة وهي أن في الماضي عندما كانوا يريدون أن يأخذوا الأحاديث ممن سمعوها من رسول الله من الصحابة أو ممن سمعوها من آبائهم من التابعين كانوا يتحرون بعض الأمور التي منها صفة العَدْل ومعناها الصدق والاستقامة في هذا الإنسان الذي يُؤخَذ منه الحديث وهي صفة عامة مبينة لوجوه الخير والاستقامة الموجودين في هذا الرجل في كلامه وأفعاله وكانوا يحرصون أن تتحقق هذه الصفة في كل راوٍ من رواة الحديث فكانوا لا يأتمنون رواية من يكذب على الحيوان


كذلك القارئ لابد أن يكون متصفًا ببعض الصفات التي تجعله مهيئًا لاستقبال الأنوار النغمية التي تهبط على القلب المصفى من الأدران الدنيوية فيكون قلبه وذهنه وعائين خِصْبَيْنِ تنمو فيهما تراكيب النغمات العجيبة المعقدة ومن ثَمَّ تخرج منهما في أبهى صورة التي لا يستطيع عليها أي أحد ولا يحدث ذلك بدون أول الصفات وأهمها وهي الإيمان الباطني الصادق فالإيمان محرك نوراني يستطيع أن يحرك أعضاء الإنسان ويهيئها للانطلاق في فضاء الإبداع كما أنه يغذي كل أعضاء الجسم بنوره ويحركه إلى فعل الخير فعلى القارئ ألا ينشغل بتعلم المقامات وزيادة حصيلته المعرفية بها ولكن عليه بزيادة حصيلته الإيمانية التي لها تأثيرها الأقوى على الأداء



وهذه كانت حال كل أئمة القراء والمبتهلين فمنهم من لم يتعلم أصلا هذه المقامات ووصل بفطرته السليمة وإيمانه العميق وبتقواه الشديدة إلى مرتبة ومكانة في قلوب الناس أفضل مما يمكن أن يوصله هذا الدرس الموسيقي الأكاديمي لها كما أن هذا الإيمان جعله يأتي بأنغام أفادت كبار الموسيقيين وفتحت لهم أفاقًا موسيقية جديدة كما أنها استطاعت أن تأسر قلوب الناس في البلاد الإسلامية العربية وغير العربية 


ومن القراء القدامى من كان عارفاً بها ولكنه لم يكن منشغلاً بها لدرجة الجنون والحرص الذي نراه الآن 


ولقد غالى الناس في تعلم المقامات في أيامنا هذه ومن ضمن هذه المغالاة أنهم ينشؤون معاهد ومدارس لها ويستخدمون الآلات الموسيقية أثناء تعليمها وجعلها شرطاً أساسياً للقبول في الهيئات الدينية ، واعلم أن ما غالى وتشدد الناس في شيء إلا وقد أصابه الباطل أو فيه شُبْهة باطل


فكان القارئ الحق في الماضي عندما يبدأ ما شاء الله له من تلاوة أو ابتهال فلا يفكر في أي شيء سوى في الكلمات التي يريد أن يتلوها أو ينشدها وكيفية ترجمتها مع ما في قلبه من حب لله ولرسوله (صلى الله عليه وسلم) وكيف يخرجه على لسانه بصورة نغمية مناسبة غير مختلقة ولا مبالغ فيها مختلطة بصفة الأدب مع الله ورسوله واحترام ما يتلى من آي الذكر الحكيم أو ما يمدح في حقهما بصورة بسيطة جدًا تدخل إلى كل قلب بدون استئذان وتُوَصِّل المعنى بأبلغ ما تُوَصِّله طول الكلمات إلا أنها معقدة وإعجازية بدرجة كبيرة خرجت عن كل احتمال فهذا هو حقًّا الإبداع وهذا هو الذي يُسَمَّى السَّهْلُ المَنِيعُ


وحتى مع معرفته لها لم يكن أبدًا ينصر في تلاوته النغم والمقامات أو ما يهواه الناس من الأنغام على حساب ما درسه من الأحكام ولا يَلْوِي أعناق الآيات لتوافق ما شاء هو أو الناس من الأنغام بل كان يحرص ألا يخرج الحرف إلا من مخرجه ولا يَطُول المَد إلا بطُولِه فتقوى الله كانت حاضرة سواء في قراءته في المحافل أو حتى مع أصدقائه من القراء في السهرات الخاصة التي ربما لا تكون عليها رقابة أزهرية ولم يكن يعد ويرتب كما يفعل قراء اليوم سأبدأ بالبيات وسأقرأ بعده بمقام كذا وسأنهي التلاوة بمقام كذا ويظل يحضر ويجهد نفسه في الإعداد والترتيب ثم يشاء الله أن يخرب كل هذا الإعداد والتخطيط ويكون الترتيب على عكس ما أعد ورتب ويكون مُنَفِّرًا وشَاذًّا وبعيداً عن ما تهواه الأذن لكي يعطيه الله درساً وهو أن الأفضل أن تشعر بما تقول أو أن تقرأ تفسير ما تتلوه خير لك من نسج المقامات وهكذا كان يفعل قراء الماضي كانوا قبل اعتلاء الدكة يقرؤون تفسير الآيات التي سيتلونها ويفهمونها جيداً حتى تنعكس على وجدانهم وأدائهم فكانت تخرج الآية من أفواهم ممزوجة بتفسيرها رغم أنه لم يقرأ إلا الآية فقط وهذا هو الذي جعل بعض الأعاجم ممن سمعوا الشيخ محمد رفعت والشيخ عبد الباسط أن يدخلوا الإسلام وينشرح قبلهم له ولو شعروا لمجرد لحظة أن هذا القارئ يحرص على التفنن في الأداء لما زاد زلك في إيمانهم شيئاً بل ربما كان ذلك سبباً في بعدهم عن الدين.


ولا يمكن أن يكون القارئ قارئًا بحق ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا إذا كان القارئ خُلُقا كريماً يُحْتَذَى به سَوَاءً في الأقوال أو الأفعال فلا يكون صورة أثناء جلوسه على دكة التلاوة وصورة أخرى بشعة عند مخالطة الناس والتحدث إليهم ، وأن يكون مِكْثَارًا للصلاة والزكاة والحج ولأعمال البر والتقوى ليس فقط أمام الناس - مع كونه مطلوباً أيضاً - بل في الخفاء وخلف أستار الليل السوداء ، فكل هذا يبني بصورة غير مباشرة قارئ عظيم فذ متفرد لأن الله نور وقرآنه نور وحروفه من نور والله لا يعطي نوره لعَاصٍ ولا يمكن أن تستقر أو تدخل هذه الأنوار في عقل أو قلب مظلم ولكن في عقل وقلب مملوء بالنور ومع هذا فلست ممن يحرمون تعلم المقامات النغمية ولست ممن يُرَغِّبُ فيها وإنما أنا أفضل أن يتوسط الإنسان ويعتدل فلا ينشغل بها ولا ينكرها كعلم له قواعده التي تُحترم كسائر العلوم فأنا هنا أُفَضِّل ولست أُحَرِّم وهناك فرق بين التفضيل والتحريم فالمُحَرِّمِين من الناس بلا دليل هم مُفْتَرُون على الله والمحللين منهم بلا دليل هم مميعي الدين وأنا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء




وتلخيصا لما فات


يا أيها المستمع الكريم ويا أيها المتأمل في عجائب ما صنعه الرعيل الأول من إبداع في الأداء حار فيها الإنس والجان أقول لك ليست مقاماته هي التي أوصلتك لنشوة الإحساس بالآيات وإنما إيمانه الذي تُرجم على هيئة نغمات صادقة خرجت من قلب ينبض بحب الله وحب الرسول وحب الدين وليس بسبب التعمق في دراسة المقامات النغمية التي من الممكن أن تجعل من يتعمق فيها ينصرف ذهنه أثناء التلاوة إلى إعداد وترتيب المقام تلو المقام ليوافق هوى المستمعين وهذا لا شك أثم عظيم وتطويع ولَيٌّ لآيات القرآن الكريم على حساب

الأهواء




تنبيه هام :


هذا الكلام كتبته من وجهة نظري الخاصة التي أعملت فيها فكري طويلاً ولم أرجع لكتابتها إلى أي مرجع أو مصدر فهو من وحي خواطري وفكري الخاص.

إرسال تعليق

0تعليقات
إرسال تعليق (0)